آية الله العظمى المعظم المجاهد المظلوم المولى الميرزا علي الحائري الإحقاقي قدس سره الشريف |
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه ومظهر لطفه وأشرف بريته محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين الذين علاهم بتعليته وسمى بهم إلى رتبته ولعنة الله على أعدائهم ومخالفيهم وغاصبي حقوقهم الذين هم شر خليقته.
وبعد فيقول الأحقر الفاني (علي بن موسى الحائري) عفى الله عن آثامه وجعل مستقبله خير أيامه. أن في أوان توجهي إلى زيارة سيدي ومولاي أبي عبد الله الحسين عليه السلام لدرك فضيلة نصف شعبان تحت قبته، وذلك في العشرين من شهر رجب من سنة الألف والثلاثمائة والخامسة والستين من الهجرة ، أورد عليّ مسائل نفيسة جناب الأجل الأكرم والخل المعظم صاحب الفضل والمنبر وذو الشرف والفخر الصفي الوفي الملا مكي ابن المرحوم الحاج قاسم بن أحمد بن مدن بن الشيخ حسن الجارودي الخطي سلمه الله وأبقاه ومن كل مكروه حرسه و وقاه. يريد مني جوابها وكشف نقابها. وحيث كنت على جناح سفر تأخر إنجاز ما أراد إلى بعد قضاء الوطر. ولدى قفولي إلى الأحساء سارعت إلى الجواب سائلاً من الله تعالى وأوليائه الأطهار الهداية إلى الصواب مع ما أنا عليه من كثرة الأشغال وتبلبل البال لكن. لا يسقط الميسور بالمعسور، والله حسبي وعليه توكلي في كل الأمور وجعلت سؤاله كالمتن وجوابي له كالشرح.
قال سلمه الله تعالى بعد السلام والثناء علي حسب حسن ظنه:
الأولى: ما يقول شيخنا أيده الله في تأويل قوله تعالى: (اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتى عشرة عيناً). فمن موسى ومن العصا وما الحجر وما العيون؟
أقول ولا قوة إلا بالله إن الآية الشريفة ليست كما ذكره السائل سلمه الله تعالى بل هي في سورة البقرة هكذا: ( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتى عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم)، وفي سورة الأعراف هكذا: (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتى عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم)، ومراد السائل سلمه الله تعالى هو الكشف عن تأويل الآية الشريفة وباطنها لا ظاهرها لأن ظاهرها معروف مشهور لا خفاء فيه ومع ذلك لا بأس إن أشرنا إلى الظاهر اختصاراً ثم عطفنا الكلام إلى الباطن.
التفسير الظاهر
فنقول: لما اشتد العطش في التيه على بني إسرائيل، التجأوا إلى نبيهم، نبي الله موسى عليه السلام، وتضرعوا إليه. فسأل الله تعالى أن يسقيهم فأوحى الله إليه أن اضرب الحجر بعصاك التي كانت لك آية باهرة التي ضربت بها البحر فانفلق والتي صارت ثعباناً تلقف ما يأفكون، وهي التي حملها آدم من الجنة إلى الأرض، فكانت عند نبي الله شعيب عليه السلام، فدفعها إلى موسى، وكان طولها عشرة أذرع كطول موسى، ولها شعبتان تنقدان في الظلمة نوراً. فضرب بها الحجر داعياً بمحمد وآله الطاهرين عليهم السلام، وكان ذلك حجراً مخصوصاً. كما كانت العصا كذلك، وما كان من عرض سائر الأحجار كما قيل بل روي أنه نزل من الجنة كما في التفسير المسمى (ببيان السعادة) عن إمامنا الباقر عليه السلام أنه قال: (نزلت ثلاثة أحجار من الجنة مقام إبراهيم وحجر نبي إسرائيل والحجر الأسود)، فكما أن العصا كانت آية باهرة كذلك كان ذلك الحجر فلذا إذا ظهر الحجة المنتظر عجل الله فرجه حمل معه ذلك الحجر فينادي مناديه: (ألا لا يحملن أحدكم طعاماً ولا شراباً ولا ينزل منزلاً إلا انفجرت من ذلك الحجر عيون فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآناً روي ورويت دوابهم حتى ينزلوا ظهر الكوفة النجف).
فلما ضرب موسى بعصاه الحجر انفجرت (كما في سورة البقرة) وانبجست (كما في الأعراف). الانفجار هو الجريان بقوة وكثرة، والانبجاس هو الجريان بضعف وقلة ولا منافاة بينهما. إذ يحتمل أن نكون الانبجاس في أول الضربة وأول الجريان ثم يتقوى بعد ذلك فيكون انفجاراً كما هو العادة والمتعارف غالباً في بعض العيون الذخَّارة، أو أنه ينبجس عند حمل الحجر وينفجر عند وضعه، أو أن الأمرين يجريان على حسب الحاجة.
فلدى الحاجة إلى القليل ينبجس وإلى الكثير ينفجر كما قيل ولا بأس به بل هو جيد.
قال تعالى: (وانفجرت منه اثنتى عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم) العيون على عدد الأسباط حيث كانوا اثنى عشر سبطاً فلكل سبط عين ماء عذب فرات في جدول خاص إلى ذلك السبط على قدر حاجته. (قد علم كل أناس مشربهم)، وكان يشرب كل يوم منه ستمائة ألف نسمة جلّت قدرته وبهرت وعظمت آيته. هذا هو ظاهر التفسير.
التفسير الباطن
وأما الباطن والتأويل فموسى الحقيقي هو نبينا محمد صلى الله عليه وآله. وموسى نبي إسرائيل إنما سمي موسى لأن آل فرعون التقطت صندوقه الذي كان فيه من نهر النيل بين الماء والشجر فسموه موشى (بالشين المعجمة) على اللغة العبرانية، كلمة (مو) عبارة عن الماء و (شى) عن الشجرة، فلما نقل إلى العربية قيل موسى (بالسين المهملة) وكذا كل شين (بالمعجمة) في العبرانية هو سين (بالمهملة) في العربية ظاهراً وعيسى في لغتهم عيشى بالمعجمة وهكذا.
ونبينا صلى الله عليه وآله هو الذي تخلق من ماء الوجود النازل من سحاب المشيئة الإلهية. إذ لا خلق قبله ومن شجرة صورته وإنيته وماهيته التي هي الشجرة المباركة الأولية التي لا شرقية هي ولا غربية. برزخ البرازخ لا وجود حق ولا وجود مقيد. بل وجود مطلق ومفعول مطلق لم يقيد إلا بالمشيئة لا غير، أو أنه لا وجود مطلق وهي المشيئة الكلية ولا وجود مقيد الذي في أوله الدرة وآخره الذرة. بل أمر بين الأمرين، وهو نور الأنوار ومادة المواد وأسطقس الأسطقسات، وهنا مطالب كتمانها في الصدور خير من إبرازها في السطور. فيكون موسى الحقيقي الأصلي الأولي هو نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وهو الذي عناه مولانا ومولى الكونين أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (أنا عصا موسى لا موسى نبي إسرائيل)، وإلا لزم أن يكون من هو أفضل وأشرف بمراتب لا يحصيها إلا خالقه آية ومعجزة لمن هو أدنى وأنزل منه بمراتب كذلك، وكيف تكون الآية أفضل وأشرف من ذي الآية؟ ومحمد وآله الطاهرين سلام الله عليهم أفضل من كل نبي وملك ومن كل ما سوى الله تعالى، والأنبياء عامة خُلِّقوا من فاضل أنوارهم وشعاع أجسامهم الشريفة كما هو منطوق الأخبار المستفيضة بل المتواترة. بل هم الوسائط لتكون وجوداتهم، فيكون مقامهم بالنسبة إلى الأنبياء مقام العلة والمؤثر، فكيف يكون العلة والمؤثر آية ومعجزة للمعلول والأثر وهذا خلاف الحكمة. بل هو الحقيقة انقلاب للحقيقة.
فثبت أن موسى الذي عناه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (أنا عصا موسى) هو نبينا صلى الله عليه وآله لا غير. كي يوافق كونه عصا له وآية ومعجزة وبرهاناً لنبوته فافهم.
ومن هذا البيان ظهر لك معنى العصا في الآية الشريفة تأويلاً، وأنها هي إمامنا أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام. فكما أن موسى الظاهري إنما ظهرت نبوته وقهر عدوه وفرعون زمانه بعصاه، وغلب السحرة بتلك العصا، وبها فلق البحر وضرب الحجر فانفجرت العيون منه، وغير ذلك مما صدر منها. فصارت العصا آية باهرة ومعجزة سماوية له لا ترد ولا تبطل. فكذلك علي سلام الله عليه بالنسبة إلى نبينا هو آية الله الكبرى ومعجزة نبينا العظمى وعصاه التي لا تنثني ولا تنثلم ولا ترجع قهقرى، ويتكأ عليها في جميع أموره ويهش بها على غنمه وأُمَّته ورعاياه وله فيها مآرب أخرى في الدنيا وفي البرزخ والأخرى، وما ظهرت بل وما استقرت نبوّته إلا بعلي عليه السلام. بل لم يُؤمر بالتبليغ وإظهار البعثة إلا بعد تولده عليه السلام وبلوغ سنّه عشر سنوات. فَشّدّ به أزره وأشركه في أمره وأيده به ونصره. فجعل يدافع عنه ويذب عنه الجهّال وعتاة المشركين وطغاة المنافقين، ويرغم آناف صناديد قريش، وما حضرت معضلة إلا كشفها علي عليه السلام ولا مشكلة إلا وحلَّها ولا كُربة إلا وفرَّجها ولا غزوة إلا وحضرها وصار الفتح والنصر على يديه، ولا زال يغوص الشدات وينغمر في لجج الكربات فيتخلص عنها نجياً، وينجو منها ظافراً مهدياً، وما برح يكشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله في الحروب والغزوات وغيرها حتى استقرت نبوّته وثبتت شريعته ونفذت كلمته واتسعت دائرته وانتشرت دعوته. فكان له صلى الله عليه وآله كما أفصحت عنه سكنه وزوجته وكفوه رضيعة الوحي وأرض الولاية في خطبتها قائلة: (أو نجم قرن للشيطان وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه مكدوداً في ذات الله مجتهداً في أمر الله قريباً من رسول الله سيداً في أولياء الله مشمراً ناصحاً مجدّاً كادحاً.. إلخ). ولولاه لما قام عمود الإسلام وما أخضر عوده ، ولولا حسامه ما كمل الدين ولا تنشبت عروقه. فهو العصا الموجه بها في جميع حاجات الرسول ومأربه والناهض المكافح الناطح الساعي المجد في عامة مطالبه. فحق له عليه السلام إذا قال: (أنا عصا موسى)، ومثل هذه الآية العظمى والمعجزة الكبرى لا تليق إلا لمثل ذلك النور الأتم والتجلي الأعظم، الرسول الأكبر وخير كافة الخلق والبشر صلى الله عليه وعلى عصاه وآلهما الطيبين الطاهرين.
وأما الحجر في تأويل الآية فهي سيدتنا الزهراء والصدِّيقة الكبرى التي على معرفتها دارت القرون الأولى كما في أمالي الشيخ عن الصادق عليه السلام. وكما أن ذلك الحجر نزل من الجنة كما مرَّ في الرواية عن إمامنا الباقر عليه السلام. فكذلك هذه السيدة الطاهرة كان نورها مودعاً في شجرة من أشجار الجنة. كما عن عيون المعجزات. فلما دخل والدها رسول الله الجنة أُوحي إليه أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك فخلقت من ذك النور.
ولما أراد الله سبحانه نجاة الخلق من تيه الضلال وترويهم من آداب المعرفة والكمال ورزقهم من فنون العلم، وكل فيض كوني وشرعي دنيوي وأخروي. أوحى الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله أن اضرب بعصاك الحجر، أي زوج النور من النور. فنهض ممتثلاً بأمر الله قائماً بوظائف ذلك الازدواج مهتماً لما قدَّر الله منهما من عظيم النتاج. حيث قال تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان).
والحاصل أن نبينا صلى الله عليه وآله لما لبس لباس النبوَّة صار واحداً منهم ومن جملتهم ومكمِّلاً لعددهم، وإن كان أفضلهم وأشرفهم، وإن كانت أيضاً نبوّة عامة كلية ونبوّة سائر الأنبياء بالنسبة إلى نبوّته خاصة جزئية. فهذا اللباس يعد قطرة من قطراته ورشحة من رشحاته، وبهذا اللحاظ صار معدوداً من سلسلتهم ومحسوباً من عدادهم و واحداً من عددهم. بخلافه على اللحاظ الأول فإنه بذلك اللحاظ علّة لهم و واسطة بينهم وبين بارئهم وشفيع لهم وصراطهم إلى الحق وبابهم للفيض الكوني والشرعي. فإذا أتقنت ذلك كله عرفت أن الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ونبينا من ذلك العدد وداخل فيهم بلباس النبوّة وهو مع ذلك لم يخل مقامه من كونه أصلاً للقطرات والرشحات. كما هو مقتضى الحديث المذكور، ولا يتوجه عليه أي إشكال ولا بعض سؤال فافهم واغتنم. فإنك لا تجد نحو هذا البيان والتحقيق إلا ممن شرِب من العين الصافية التي لا كدر فيها ولا ملوحه ولا مجاج وذاق من الحكمة التي لا خلل فيها ولا اعوجاج.
المصدر: الكلمات المحكمات – الرسالة الخامسة – في الإجابة عن مسائل متنوعة - للحكيم الإلٰهي والفرد الصمداني العالم العامل الآغا الميرزا علي بن الميرزا موسى الحائري الإحقاقي أعلى الله مقامهما
ليست هناك تعليقات:
يسعدنا تفاعلكم بالتعليق، لكن يرجى مراعاة الآداب العامة وعدم نشر روابط إشهار حتى ينشر التعليق، ويمكنك أن تستخدم الابتسامات بالوقوف عليها لمعرفة الكود
=q =w =s =d =f =g =h =t =y =u =z =x =c =v =b =n =m =a =e =r